2024-01-19 03:51:53
التكرار في الكتاب المجيد
بدا لي في هذا الأمر سر جليل، وهو أن التكرار دلالة الإلهية والصدق!
فليس القرآن المجيد -وهو الكتاب المعجز-معرضا لفنون البلاغة استقصاء وإحاطةً، وإنما هو كتاب هداية ونور، أنزله رب العالمين سبحانه وبحمده لتزكية النفوس وصلاح القلوب والعالم!
والذي تكلم به هو العليم الخبير الذي يعلم أدواء النفوس وعللها، وخفيات الأمراض وصورها، وهي متباينة متكاثرة متلونة، تعرض للنفس في أحوالها كلها، ولا تكف عن مزاحمتها والإحاطة بها إفسادا لمعالم الإيمان، وأنواره في النفس والقلب والروح!
فلابد من الإلحاح على هذه الأدواء، والتعرض لها بأنوار الشفاء، " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين"..
وتأمل هذين الحرفين:
شفاء: وهذا مدعاة للحرص على معالجة المريض إنارةً لظلمته، وذهابًا لعلته، وليس مجلبة للبهرج والخيالات ! ولهذا فالقرآن كله حق وصدق!
والرحمة: خلوص الدواء من زوائده وشوائبه، وسرعة نفاذه في القلب، وأثره في النفس..رفقًا بالعبد، ورحمةً بضعفه وفاقته وشدة ضرورته إلى تلقي أنوار الوحي!
فهل ترى فقيرا مضطرا يختال بين يديه غنيٌّ بفنون القول وتصاريف البلغاء، ومناهج الفلاسفة؟! أم يعجل له بالهدى في أعظم بيان وأرفقه وأجمله وأجلِّه أثرا ونفاذًا في النفس، مما لا يطيقه أهل الزخارف البيانية والبهارج الخطابية!
فأذعن الكل من مشركي العرب وعقلاء العالم إلى يوم الناس هذا لفصاحة هذا الكتاب وبلاغته وإعجازه الشامخ، وهداياته العِذاب!
ومن هنا تعلم سر انتقال القرآن من معنى إلى آخر، والاستطراد في بيان أمر مست حاجة الإنسان إليه كأدواء النفوس ومداخل إبليس، وخلوه مما لا تتوقف حاجة الإنسان في الصلاح إليه، كالأسماء والتواريخ والأماكن!
فإن القصد هو الهداية والعناية لا بهرج الاستطالة ولا خيلاء البيان!
فبيان القرآن بيان معجز فذ شامخ، لا خفة فيه ولا خيلاء! خالص من الزيف والثرثرة، لا يأنف من الإلحاح على معنى في أكثر من سورة بأكثر من صورة!
وهذا والله هو الصدق الذي لا ريب فيه! وليس صنعة فنان ولا ابتكار بليغ خلا بنفسه فجلس فوضع الألفاظ بين يديه يأنف من التكرار، واللفظة الثقيلة " كضيزى وأنلزمكموها، وغيرها".. فهذا همُّ مَن غايته إرضاء الناس! والقرآن همه إصلاح الناس لا متابعة أهوائهم، وتحقيق رغباتهم!
فإذا وعيتَ هذا الحرف الشريف انفتحت لك معالم نور لا تنتهي، وكانت تلاوتك للقرآن معراجا لا ينتهي حتى تصل إلى العرش!
13.5K views00:51