2023-07-16 05:22:11
زارني أحد الشباب - وهو في عقده الثالث- في مكتبتي ، فسألني:
الكتب تبدو جديدة! ، هل حضرتك اشتريتها دفعة واحدة ؟
قلت: لا بالطبع ، فإن تاريخ بعضها - وهو الأقل - يعود إلى وقت أن كنت في
الثانوية العامة.
ثم شرعَ يتجول في المكتبة ، فتركته وشأنه وشرعتُ أنا الآخر أتجول في
ذاكرتي عن قصتي مع الكتب ولماذا هي تبدو جديدة ، فركبتُ آلة الزمن
وانطلقت إلى حيث جامعتي الأولى التي تخرجت فيها وكانت تدعى - وما
زالت والحمد لله- : أبو العلا أحمد حمزة ؛ والدي وصديقي ؛ إلا أن بينهما
برزخا لا يبغيان ؛ فالمقام محفوظ له والدا ، كما أنه هو الذي كان يحدد متى
يكون صديقا بحيث أشعر أنه ذلك التلميذ الذي يجلس بجواري في الفصل ،
وكان يعجبني ذلك منه جدا ، فكنت أتأمل قدرته على الفصل متى أراد!
ومن فصول تعامله كوالد (محض) لا أثر في وجهه ولا صوته لما كان بيننا
من صداقة قريبة عهد لم يمر عليها أكثر من ساعة ، والساعة كثير ، ولكن
لا بأس فقد اعتدت منه ذلك بل أحببته ، حتى صار ذلك من مركبات
شخصيتي وأبرزها !
أعلم أنه كان ينبغي أن أذكر فصلا من فصول تعامل الوالد كوالد ، ولكن
كما هي عادتي يتشعب بي الحديث
كثيرا تماما كسائح دخل بلدا لم يره من قبل يتجول في طرقاته يتقلب بين
المشاهد يمينا ويسارا ويستوقفه المنظر العجيب فيتأمله وربما مر به الوقت
دون أن ينجز مهمته السياحية حسب خطته المبرمة سلفا ، فليتحملني
القارئ الصبور ، فلست من أصحاب الصنعة الأدبية ، ولو أني علمت أحد
الأدباء اطلع على قطعتي تلك لذبت حياءً واعتزلت الخلق أياما!
حسنا ، سأتماسك حتى أروي هذا الفصل ثم أتجول ثانية في وديان ذاكرتي الصغيرة كسائحنا ، ولك وقتها أن
تقرر أن تصحبني أو أن تفارقني ، قد بلغت من لدني عذرا.
ذات ليلة لا أدري إن كانت مقمرة أو لا ، فقد كنت في البيت ولم أكن مهتما بهذه التفاصيل ، اتخذ الوالد مجلسه
وقد ارتدى ثوب الصديق ، يملأ البيت دعابة وفرحا ، لكن لم تدم أوقات
السعادة طويلا ، فقد للوالد أن يكون (والدا) الآن ، ورحل الصديق إلى ميقات
غير معلوم ، وكان السبب في ذلك أن ذكر أحد إخوتي الأربعة (فأنا خامس
خمسة آنذاك ثم زال عني لقب آخر العنقود وصار ترتيبي الخامس بين
سبعة ) شيئا عن المدرسة والدراسة فهيَّج ذلك الوالدَ أن يسأل عن حال
كتبنا المدرسية التي كانت في عامنا المنصرم!
سعيد ، أحضر كتبك لأرى كيف حالتها من الصيانة والإهانة ..
أحب أن أذكر القارئ أني كنت وقتها في الصف الأول أو ربما الثاني الابتدائي
، وأحمل لقب (آخر العنقود) ، والمفترض أن أكون مدللا ، ولكن حيثيات اللقب
كانت معطلة ، ولم يكن عمري الزهوري سببا للنجاة !
انطلق سعيد وبعض إخوته إلى كتبهم لإحضارها وأفلت الأخ الذي كان
سببا في إشعال الفتيل بعملته ، ولكني انتقمت منه بعد ذلك عندما ظهر
مخلبي الأول.
قلب مرتجف ، أشعر ببرودة من الخوف ، كيف أواجه والدي (المحض)
بهذه الكارثة التي ارتكبتها في حق كتاب القراءة ، فقد رسمت على جلاده
الكرتون (برتقانة) !
الحمد لله ، لم تكن مرسومة بالقلم الجاف ، وإنما بالرصاص ، وهذا أمر
يخفف من العقوبة ، ولكن لماذا العقوبة؟
يمكنني أن أمسحها وأزيل برتقالتي ، وكأن لم يكن شيئ !
ويلي ثم ويلي ، أين (الجُومة) .. الوقت يمر ، وإخوتي يقدمون كتبهم وما زلت أنا متأخر .. ما العمل؟
حسنا ، لقد رأيت أحد رفقائي في المدرسة ذات مرة يمسح ما كتب
بإصبعه ، فلم يكن يمتلك ممحاة (جومة) ،
وإن كنت أرفض ذلك من صاحبي وأعتبره ضربا من القذارة ، لكن لات حين
المثاليات ، الوقت وقت المفر.
شرعت في تصحيح ما جنته يداي ، فأتيت بجريمة أكبر ، لقد انتشر لون
القلم الرصاص على الجلاد ، وصار من البشاعة ما جعلني أستعد يقينا
لصفعات الوالد البانية الحانية ، نعم أقول البانية الحانية وأنا الآن أجلس على
عرش الوالد كما كان يجلس أبي ، ووعيت عنه لم كان يفعل ذلك.
لا محيص ، لقد جاء النداء بضرورة الخروج إليه ، فقد جاءت شقيقتي
تناديني: أبوك عايزك ، وهي تشير بالويل والثبور كما يعرف المصريات ذلك.
خرجت أحمل جرائمي بين يدي ..
أخذ والدي يفحص الكتب كتابا كتابا ، وكل كتاب ورقة ورقة .. حتى جاء دور
برتقانتي ..
ما هذا ؟
أجابت طفولتي وأنا أتعجب من سؤال رجل كبير يعرف جميع أنواع الفواكه:
برتقانة!
أثارت إجابتي الهادئة الخائفة والدي : ما أنا عارف أنها برتقانة . . أنت بتستعبط ؟
دا مكان ترسم فيه ... أنت مهمل .. كيف تريد أن تتعلم وأنت تهين كتابك ...
الولد ده مش نافع ..
ثم توجه باللوم على أمي ..
كنت أستمع إلى والدي ولساني حالي: لا أفقه كثيرا مما تقول ، أين
المشكلة ، أنا كل ما أراه أني كنت أشتاق إلى البرتقال أو جاء ذكر البرتقال
فرسمتها على كتابي .. هذا فحسب ، ولا أدري ما العلم حتى أحترمه !
نعم ، طويت مشهد الضرب حفاظا على شكلي أمامك أيها القارئ الصبور ،
وعلى العموم ، كان الضرب أخف من ذي قبل ، ولم أكن أنا المجرم الوحيد !
2.3K views02:22