2023-04-25 01:49:36
من الأمور المهمة في مباحث علم الكلام ، هي قضية التفريق بين المقام الكلامي والمقام الأثري الإجمالي.
فقد دأب المتأخرون في محاولة تخريج النصوص تخريجًا أصوليًا عقليًا، من جنس تخريج الفقه على أصول الفقه الذي هو علم حادث بعد القرون الأولى.
بمعنى آخر إن كلام المتأخرين- بما فيهم ابن تيمية - هو كلام أصولي تحقيقي لما تضمنته نفوس السلف سليقةً، كسائر تحقيقات المتأخرين التي لا خصوصية لابن تيمية فيها.
لا كما يظن بعض طلبة العلم ممن ينقلون كلام ابن رجب في ذم الخوض، دون اعتبار أن ابن رجب قصد ذم خوض الجميع سواء مدرسة القاضي، وابن تيمية، وكتب متأخري الحنابلة، والأشاعرة من باب أولى.
وافتح كتب المرداوي أو ابن النجار فضلاً عن السفاريني وغيره = ستجد تشقيقات كلامية دقيقة في مبحث الاعتقاد، نقلها من الأشاعرة أو من ابن تيمية أو من متكلمة الحنابلة.
هذه التشقيقات غير مروية عن الإمام أحمد - والأمثلة على ذلك كثيرة عندي تركت نقلها خشية الإطالة-
والقصد: لا خصوصية لابن تيمية في هذه التشقيقات، بل هو ما استقر عليه العمل في الرواق العلمي وقد أهمل المتأخرون كلام ابن رجب. فمن يريد أن ينتقد فلينتقد الجميع، لا أن يكون انتقائيًا.
وهو أمر معروف في بقية العلوم، فلو قلت - مثلاً- أمام أحد السلف قاعدة في أصول الفقه لما فهم قصدك، مع أنه يستخدم تلك الأصول بالسليقة دون أن يتلفظ بها.
ولذلك قال الناظم في علم الأصول:
أول من دونه في الكتب** محمد ابن شافع المطَّلبي
وقبله كان لهم سليقة** مثل ما للعرب من خليقة
وكذلك -وسواء بسواء- في المباحث العقدية، هناك تشقيق أصولي متأخر مُخرج عليه كلام السلف.
ومن ذلك: قضية (القدم النوعي وحدوث الأفراد) التي أثارها أحد الباحثين المعاصرين، وزعم عدم ثبوتها عن السلف. وكأنه قد اكتشف جديدًا.
ذلك لأنه ليس البحث في ثبوت هذا التفريع الأصولي عن السلف من عدمه، فعدم وجوده عندهم= أمر بدهي، كما أن عدم وجود قواعد لديهم في أصول الفقه والعلوم النظرية أمر بدهي أيضًا.
بل نقطة البحث هي في تخريج كلام أهل الحديث الذي لا يحتمل إلا احتمالين:
١- قدم (عين الكلام)
٢-قدم (نوع الكلام) ولا ثالث لهما.
وإذا فُسِّر بقدم العين= ستكون شبهة عليهم لا محالة، لا شبهة على ابن تيمية، فإن فساد ذلك يُعلم بالضرورة.
حتى أن ابن المبرد الحنبلي التفت إلى ذلك وقال : "وما قالوه يلزم منه أن الله مازال ولا يزال يتكلم بنفس الكلام في الأزل لا يسكت أبدًا، وهذا يُعلم فساده بالضرورة"
وبسبب ذلك جعلهم أهل الفرق بمنزلة العوام الأميين ممن لا يعقلون ما يقولون.
لذلك ابن الملاحمي المعتزلي اعتذر عنهم بشيء من التهكم قائلا : (أصحاب الحديث والحنابلة لا يُحصِّلون معنى القديم وأنه هو الذي لا أول لوجوده)
واعتذر عنهم برهان الدين البغدادي الأشعري قائلاً : (إن المُشبهة لم يجحدوا الضرورة فإنهم إذا سئلوا عن الكلام متى ابتدأ ومتى انتهى لقالوا: في الوقت الفلاني، وهذا تصريح منهم بالحدوث، وانما قالوا عنه قديم تنزيهًا له)
و ابن عقيل الحنبلي في (الإرشاد) اعترف بتناقض الحنابلة - وهو كتاب كتبه بعد رجوعه إلى السُنة-
يقول ابن عقيل : (أصحابنا قد غروا بلفظة القديم .. فإما جهلاً منهم بمعنى القديم وأنه لا أول لوجوده، أو ظنوا أنه بمعنى عتيق )
وهذا الذي قاله عن الحنابلة صحيح، فهذا أبو الفرج الشيرازي حاول أن يخرج من إلزام الأشاعرة، فقال : (وجوابٌ آخر: أن حدَّ القديم هو المتقدم على غيره.. فيكون قديما بهذا المعنى )
وهذا الذي قاله الشيرازي لا يُنازعه فيه أحد، ولا يُمثل حلاً للمشكلة عند مخالفيه من الأشاعرة والمعتزلة؛ فليست مشكلتهم هل القرآن قد تكلم به الله قبل خلق السماوات والأرض أم تكلم به بعدهما. إنما مشكلتهم أنه قاله في وقت معين، مما يعني حلول الحوادث بذاته.
لذلك يقول ابن تيمية في ذلك : ( ومنهم من يقول قديم بمعنى أنه متقدم على غيره، ولا يعرف أن الذين قالوا القرآن مخلوق = لا ينازعونه في أنه قديم بهذا المعنى ..ومنهم من يقول قديم يعني أنه غير مخلوق، ولا يفهم من ذلك أنه أزلي لم يزل..
ومنهم من يقول قديم في العلم،، ولا يعلم أن المخلوقات كالسماوات قديمة في العلم أيضًا )
فالحاصل:
أن السردية التيمية في الحدوث والقدم = هو تحقيق أصولي مُتأخر؛ ليرفع عن أهل الحديث التناقض ومخالفة الضروريات.
وليدافع عنهم أمام العقلاء والمتكلمين الذين جعلوهم بمنزلة العوام الأُميين، وقالوا: (طريقة الخلف أعلم وأحكم) . فأراد ابن تيمية أن يثبت أن طريقة ظواهر القرآن والحديث هي الأعلم والأحكم وأنها لا تخالف المعقول في شيء.
إذن المسألة لا تُمثل شبهة - أساساً- على ابن تيمية كما يظن بعض المعاصرين، وإنما الشبهة قديمًا كانت على الحنابلة.
ومثلها مسألة اللفظ التي لو فُسرت على لوازم كلام الحنابلة لأتت بلوازم شنيعة، وقد التزمها كثير منهم للأسف، فهذه المسائل كانت شبهة عليهم لا على ابن تيمية الذي جاء ورفع عنهم الحرج.
508 views22:49